إن أكبر معضلة قد تواجه العالم الحديث اليوم، إضافة إلى الحروب و التغيرات المناخية التي أصبحت لا تخفى مخاطرها اليوم على المجتمع الدولي, تعتبر أزمة شح الموارد المائية و شبح فقدانها في بعض المناطق في العالم الذي أصبح هاجسا يؤرق مؤسسات المجتمع الدولي.
حيث أكدت منظمة الصحة العالمية في دراسة أجرتها سنة 2015 حول مدى توفر المياه لسكان العالم أنّ91 بالمائة من سكان العالم يمكنهم الوصول إلى مصادر مياه الشرب المحسنة و ذلك مقارنة بنحو ستة و سبعون بالمائة سنة 1990، لكن تجدر الإشارة بأنّ هذا المعدل و رغم تطوره الإيجابي من المتوقع أن يشهد تقلّصا بحلول سنة 2050 لتنحصر نسبة السكان القادرين على الوصول إلى موارد المياه المحسنة إلى نصف سكان الأرض فقط،وهو ما يؤدي تباعا إلى ارتفاع مؤشرات الخطر و إطلاق صافرات الإنذار في المجتمع الدولي.
علاوة على ما سبق، تؤكد منظّمة الصحة العالمية في دراسة أخيرة أن حوالي 844 مليون[1] شخص يفتقرون حتى إلى خدمات مياه الشرب الأساسية من بينهم 159 مليون شخص يعتمدون على موارد المياه السطحية.
كما أن البلدان منخفضة و متوسطة الدخل على غرار البلدان العربية و الإفريقية لم تكن بمنأى عن هذا الواقع، إذا بالتمعن في مواردها، نسجّل افتقارها إلى 38 بالمائة من مرافق الرعاية الصحية إلى مصدر محسن للمياه[2]، 19 بالمائة من هذه البلدان لا تملك مرافق صرف صحي محسنة, بل تفتقر نسبة35 بالمائة حتى إلى الأساسيات الصحية و أساسيات النظافة, الشيء الذي يدل على تدهور تام للأوضاع في بعض المناطق.
و أمام هذه المعطيات الجدية, من المهم أن نبحث في دور الدولة التونسية اليوم في تثمين مواردها المائية لمواجهة مثل هذه المعضلة القادمة ولدحض شبح الجفاف الذي يهددها نظرا لأنها تعتبر من احد البلدان التي تعاني منذ الآن من شح الموارد, خاصة و أن بعض مناطقها,و المقصود هنا ولاية قبلي التي ستسلط عليها الدراسة, مصنفة ذات مناخ حار في الصيف و تعاني غالبا من تقلص مياه الري و الإنقطاع المتكرر للمياه المنزلية و هو ما ينذر بأنها أصبحت تعيش مرحلة الخطر.
تقع ولاية قبلي في الجنوب الغربي من البلاد التونسية بين واحات النخيل، و تعتبر بوابة الصحراء التونسيّة الممتدة إلى الجزائر تحدها شمالا ولاية قفصة و جنوبا ولاية تطاوين و غربا ولاية توزر و الحدود الجزائرية و شرقا ولايتي قابس و مدنين كما تغطي الولاية جزء كبير من شط الجريد الذي يعتبر أكبر سبخة ملحية في تونس، و تتميز بالعديد من المناظر الطبيعية الخلابة خاصة الصحراوية منها مما يجعلها قبلة هامة للسياحة الصحراوية.
و حيث تعتبر الأنشطة الفلاحية أهم منشط اقتصادي لولاية قبلي، الّتّي تشتهر بالأساس بإنتاج و تصدير التمور عالية الجودة أدت إلى عمليّات تسويقيّة ساهمت بشكل ملحوظ في تنمية اقتصاد الولاية و ازدهار أغلب مناطقها.
تزخر الولاية بمخزون هام من المياه الجيوحرارية الجوفية التي المخصّصة منذ التسعينات لتعاطي الأنشطة الفلاحية تحت البيوت المحمية بعديد المناطق منها "سعيدان" , "أم الفرث", "ليماقس", "بازمة" ,"جمنة" و "فطناسة".... أما على مستوى الإنتاج الحيواني فتتميز منطقة نفزاوة بمراعيها الشاسعة المثاليّة حسب الدراسات لتربية الماشية خاصة الأغنام و الإبل.
و بما أن المنطقة تعتبر من الأقطاب الفلاحية التي تمثل مورد رزق لمعظم سكان المنطقة، فإن الإقبال على الموارد المائية الجوفية يعتبر إجراء روتيني يومي لفلاحي المنطقة نظرا لكونها مصدر الري الوحيد و حتى بالنسبة للإستعمالات اليومية للسكان الأمر الذّي يهدد تباعا بتداعي المائدة المائية لتأطير هذه المخاطر, يتحتّم علينا أولا التمعّن في خصائص هذه المائدة.
تشكل الموارد الجوفيّة بكافة ولايات الجنوب التونسي، مصدرا رئيسيّا لريّ الواحات و للإيفاء بحاجيات مياه الشرب و السياحة و الصناعة،و من أهم خصائص هذه الخزانات الجوفيّة احتوائها على مياه أحفورية لا تتجدّد إلا بنسبة ضئيلة جدا و عابرة للحدود، مشتركة بين تونس و الجزائر و ليبيا.
و قد أفاد التقرير الوطني للموارد المائية للبلاد التونسية لسنة 2019 بأن الموارد المائية الجوفية بالبلاد التونسية تقدر بحوالي 2165 مليون متر مكعب في السنّة تتوزع حسب العمق على الخزانات المائية الجوفية قليلة العمق، أي أقل من خمسين مترا، و تحتوي على موارد مائية جوفية تقدر ب745 مليون متر مكعب في السنة و على الخزانات المائية الجوفية العميقة التي يفوق عمقها خمسين مترا. إذّ قدّر الخبراء سنويّا،الموارد المائية بنحو 1420 مليون متر مكعب في السنة، منها 770 مليون متر مكعب موارد مائية متجددة تتوزع على مناطق الشمال و الوسط و650 مليون متر مكعب موارد غير متجددة موجودة بالخزانات المائية الجوفية بالجنوب.
أكدّ في هذا الإطار الخبير الدولي في الطاقة "مصطفى بن أحمد العيساوي" أن الخزان الجوفي:"SASS" « Système Aquifère de Sahara Septentrional » المنتشر بين الجزائر و تونس و ليبيا يمثّل منظومة مائية جوفية كبيرة لا غنى عنها لاستمرار الحياة في ولايات الجنوب التونسي ( قبلي,توزر, قفصة و تطاوين) و الذّي تبلغ مساحته أكثر من مليون كلم مربع، موزعة كالآتي: 700 كلم مربع تنتمي للجزائر، 250 ألف كلم مربع تنتمي لليبيا و 80 ألف كلم مربع تنتمي لتونس.[3]
يشير الخبير إلى أن الإستغلال الحالي لهذه المنظومة مستغلة يشمل ما يقارب 8800 بئر عميق و متوسط بكل من الأقطار الثلاثة، مضيفا إلى أنّ الإستغلال الجملي يفوق 2,2 مليار كلم مربع في السنة أو 70,1 متر مكعب في الثانية موزّعة كالتالي (40,1 متر مكعب في الثانية استغلال جزائري, 10,8 متر مكعب في الثانية استغلال تونسي و 17.2 متر مكعب في الثانية استغلال ليبي) و قد كشف العيساوي أن موارد هذا الخزان الجوفي تتعرض إلى استنزاف كبير في البلدان الثلاثة, الأمر الذّي يفسّر تواليّا التدهور الكبير لنوعيّة المياه و التراجع الملحوظ في مناسيب المياه الجوفية التّي وحسب المؤشرات ستحافظ على نفس النسق التنازلي طيلة السنوات القادمة.
و عليه فإن مصدر المياه الوحيد الذي تعيش منه منطقة نفزاوة الصحراوية التّي لا تتجاوز فيها نسبة الأمطار الـ100 مم في السنة، مهدد لامحالة بالجفاف و التلاشي، مهدِّدا معه حياة و أرزاق سكان المنطقة.
فحسب اخر التقارير الواردة من المندوبية الجهوية للفلاحة بولاية قبلي لسنة 2018, تمّ تقدير نسبة الإستغلال الجملي للموارد المائية بالمنطقة 220,94 بالمائة من المياه الجوفية، وذلك عبر آبار عمومية و خاصة مرخص لها و آبار عشوائية غير مرخص لها. و المفاجئ في هذا التقرير هو الإرتفاع الكبير في عدد الآبار العشوائية في ولاية قبلي حيث رصدت المندوبية سنة 2008 عدد 3081 بئرا عشوائية و المقصود بها اللآبار التي يحفرها الفلاحون من تلقاء أنفسهم دون أن تكون مبرمجة بعداد لحساب و متابعة و تقييم كمية مياه الري الأمر الذّي ستكون تداعياته على المائدة المائية في وضعيّة الحال وخيمة.
و لكن منذ 2008 و الأوضاع في تداع, حيث أن عدد اللآبار العشوائية في تزايد على مدى السنوات الأخيرة و قد تواصل هذا الحفر العشوائي ليصل سنة 2020 إلى 7637 وهو رقم كبير جدا و يسبب عدة مشاكل للدولة أولها أنه سيعسّر في مرحلة أولى على المصالح المختصة عمليّة ضبط و حساب كمية المياه المخزّنة بالمائدة المائية سنويّا من جديد من خلال الأمطار التونسية و الجزائرية. و يمنعها في مرحلة ثانية من معرفة الكميّة الحقيقية للمياه المستغلة للري و بالتالي عدم معرفة المخاطر الحقيقية التي تهدد الموارد المائية الجوفية, ناهيك عن تسبّب هذه الأعمال العشوائيّة في زيادة نسبة ملوحة المياه و الأراضي التّي وصلت في بعض المناطق من الجهة الى 8 مليغرام/ لتر، نسبة هائلة بالنسبة لمنطقة صحراوية كولاية قبلي، و ذلك إضافة إلى عديد المشاكل الثانوية الأخرى.[4]
وتبعا لكل هذه المعطيات, يمكن الإنتهاء إلى أنه من أكبر التحديات التي قد تواجه الموارد المائية في ولاية قبلي هي مسألة اللآبار العشوائية التي أصبحت تهدد المنطقة بتضائل و تلاشي المائدة المائية و ما تنذر بيه من خطر الجفاف.إذ أضحت منطقة نفزاوة في الثلاث سنوات الاخيرة تشكو تراجعامتواصلا لضخّ مياه الريّ في المناطق الفلاحيّة خاصة في فصل الصيف ، و حتى لمياه الشرب و المياه المنزلية التي أصبحت تنقطع بصفة متكررة على بعض الاحياء السكنيّة.
و بعيدا عمّا أنف ذكره ساهمت, آليات الضخّ الضعيفة و البنية التحتية الهشة في تلوث المياه و اللأراضي بالمنطقة بشكل ملحوظ ،خاصّة بسبب التسربات الحاصلة نتيجة غياب آليات الصيانة اللازمة وهو ما يمثّل تهديدا صارخا للمتساكنين.
وبالرجوع إلى الآليّات و الظوابط التشريعيّة المنظّمة لاستكشاف و توزيع و استغلال المياه في البلاد التونسية والرامية إلى التصدي لظاهرة التنقيب العشوائي، أكّد القانون عدد 16 لسنة 1975 المؤرخ في 31 مارس 1975 و المتعلق بإصدار مجلة المياه في فصله الثامن على أنّ "أعوان وزارة الفلاحة المؤهلين بمقتضى أمر مكلفون بحفظ و نظام الملك العمومي للمياه و يتخذون جميع التدابير لضمان حرية سيلان المياه أو القيام بكل عملية مراقبة ضرورية عند الاقتضاء و ذلك مع الحفاظ على حقوق الغير."
وبالتالي فإنّ حقوق التنقيب على المياه الجوفية و استغلالها تعود حصريّا للدولة التونسيّة القادرة وحدها على إحالة هذه الحقوق لمن تراه أجدى و أكثر مصلحة. و أمام سلطة الإستغلال الواسعة للدولة، تحمّل الدولة على تسليط سلطة رقابية أوسع لصد المنقبين الذّين يستنزفون المائدة المائية بدون موجب قانوني.
في المقابل وحسب الأرقام الواردة بآخر تقارير المندوبية الجهوية للتنمية الفلاحية بولاية قبلي تمّ تسجيل تطور هائل لعدد اللآبار من سنة 2008 الى حدود سنة 2020 ، ما يترجم تباعا الغياب الشبه التام للدور الرقابي للأعوان المكلفين ولإستراتيجة ممنهجة للتصدي لشبح الجفاف و لترشيد استهلاك المياه و إيجاد حلول بديلة للمياه الجوفية المخصّصة للريّ ،إذ لابد من إتّباع سياسة صارمة لترشيد استهلاك المياه و التصدي لكل المنقبين غير الشرعيين. وتبعا الى تشكيات الفلاحين و السكان من ضعف مياه الريّ و من الإنقطاعات المتكررة لمياه الشرب في كامل مناطق الجهة, عمدت السلط المختصّة إلى حفر المزيد من اللآبار التعويضيّة كإجراء ترقيعي، والذّي تدعي بمقتضاه سعيها إلى المحافظة على مياه الريّ ببعض الواحات بالجهة وذلك.
حيث صرح المندوب الجهوي لولاية قبلي لراديو إذاعة قفصة في 30 جوان 2020[5] بتقدّم أشغال المندوبية لإنجاز عدد من المشاريع المتبقية من سنة 2019 و التّي تتمثل بالأساس في حفر العديد من الآبار التعويضية لتعزيز الموارد المائية الخاصة بمياه الري،وقد جاء على لسان رئيس دائرة الموارد المائية بالمندوبية المباشرة في حفر بئرين تعويضيين بواحة "جمنة"، بئر في واحة المساعيد لسدّ النقص الحاصل في مياه الري بالمساعيد، بئر 6 مكرر بواحة نقة بمعتمدية سوق الأحد، بئر بواحة البياز, بئر برأس العين 4 مكرر بواحة الكعبي بمعتمدية قبلي الجنوبية، بئر بازمة 3 مكرر بواحة بازمة معتمدية قبلي الجنوبية، بئر أم الصمعة 3 مكرر بواحة أم الصمعة الشمالية التي تشكو من نقص حاد في مياه الري، إضافة الى إنجاز بئرين تعويضيين بواحة الرابطة بمعتمدية قبلي الشمالية و بئر بن زيتون بمعتمدية قبلي الجنوبية. و تأتي هذه المشاريع حسب تصريحه بعد فروغ المندوبية من حفر عديد الآبار التعويضية السابقة في سنة 2018 والتي ستحافظ على معدل الريّ ببعض الواحات بالجهة و الحيلولة دون تباعد المائدة المائية بسبب تراجع دفق بعض الآبار.
كما صرح رئيس قسم المياه و التجهيز الريفي بالمندوبية للموقع الإخباري "باب نات" [6]من انتهاء الأشغالبعدد من الأبار التعويضيّة و التّي بلغت الإعتمادات الجملية لها الواحد مليون و 500 ألف دينار و التّي شملت جملة من الآبار، البئر التعويضي بواحة الجرسين من قبلي الجنوبية و واحة معتمدية الفوار و بئر أخربواحة الصابرية من نفس المعتمدية، إضافة إلى بئر بواحة بوعبدالله بمعتمدية سوق الأحد وبئر تعويضي بواحة الفردوس بمعتمدية رجيم معتوق و أخيرا بئر بواحة راس العين بمدينة قبلي.
و بالرجوع على تصريحات المصالح الإداريّة المختصّة, نلاحظ وجود مساعي إداريّة جاهدة لتدارك شح الموارد المائية الذّي يمسّ من الإستقرار النشاط الفلاحي بمنطقة نفزاوة, لكن هل أن هذا التوجه يندرج حقيقة ضمن سياسة تنموية مدروسة تراعي من جهة حاجيات المواطن و الفلاح و تهدف من جهة أخرى للتأكيد على ضرورة الحفاظ عليها و ترشيد إستهلاكها؟ وهل من مساعي واضحة لمراجعة السياسات الرقابية و الردعيّة للدولة لتتبع المارقين جزائيا و للقطع مع السياسات الترقيعيّة غير الممنهجة التّي ستؤدي لامحالة إلى تعقيد الأزمة.
[1] https://www.who.int/home/cms-decommissioning
[2] صاغ المصطلح في عام 2002 من قبل برنامج الرصد المشترك لتوفير المياه والصرف الصحي لليونيسيف ومنظمة الصحة العالمية لرصد التقدم المحرز نحو تحقيق الهدف السابع من الأهداف الإنمائية للألفية من أجل التنمية. مياه الشرب المحسنة أو مصدر مياه الشرب المحسّن أو إمدادات المياه المحسّنة هو مصطلح يستخدم لتصنيف أنواع أو مستويات معينة من إمدادات المياه لأغراض الرصد. يتم تعريفه كنوع من مصادر المياه التي من خلال تركيبتها أو تدخلها الفعلي، من المحتمل أن تكون محمية من التلوث الخارجي.
[3] https://www.turess.com/achahed/561225
[4] إحصائية المندوبية الجهوية للتنمية الفلاحية بولاية قبلي حول الآبار العمومية و العشوائية لسنة 2018
[5] http://www.radiogafsa.tn
[6] https://www.babnet.net/