تشترك المجتمعات العربية في بعض الظواهر الاجتماعية الممتدة منذ العصور الأولي و المتمثلة في العروشية أو كما تسمي كذلك بالقبلية و التي تظهر خاصة في الأوساط الأقل تمدنا كما هو الحال في ربوع الجنوب التونسي الشرقي الذي تشكل فيه عرشين ''عرش الأعراض'' من جهة و ''كنفدرالية ورغمة'' من جهة أخرى. حيث تشكل هذا الأخير منذ القرن السادس عشر لتوحيد مناطق الجنوب الشرقي ليلاحظ آنذاك المستعمر الفرنسي الوحدة القبلية فأطلق عليها مصطلح كنفدرالية ''ورغمة'' _اصل الكلمة امازيغي_ أما من الناحية الجغرافية فأراضي ورغمة تمتد من المنطقة المعروفة بواد الزاس بمارث وصولا إلي الحدود التونسية الليبية.
لكن على الرغم من أن هذه التحالفات لا تخلو من الشوائب إلا أنها ظلت إرثا تاريخيا لازالت تتمظهر في مجتمعنا إلى اليوم رغم العديد من التغيرات الاجتماعية و السياسية التي شهدتها البلاد التونسية و بناء دولة حديثة من خلال جملة من الإجراءات المتبعة من قبل الدولة كإعادة التقسيم الإداري و نشر التعليم و التشجيع على نشاط المجتمع المدني و السياسي.
إلا انه في المقابل يمكن أن يعتبر تواصل تغطرس ظاهرة العروشية في تونس إلي اليوم يعود لغياب الإرادة السياسية الحقيقية للقضاء على هذه الظاهرة نظرا لرغبة عديد الأطراف في توظيفها و استغلالها لكسب تأييد المواطنين كما سبق و حدث في الانتخابات الرئاسية السابقة حيث ارتكز العديد من السياسيين على العروشية لضمان اكبر عدد من الأصوات في جهات معينة كحصول النائب سيف الدين مخلوف عن كتلة إئتلاف الكرامة على اكبر عدد من الاصوات في ولاية تطاوين نظرا لمخاطبة المواطنين و التأثير عليهم من خلال اللجوء إلي العروشية كوسيلة لإيهام المواطنين بأنهم سيحققون مطالبهم و يرتقون بالمنطقة التي تعتبر مسقط رأسهم, لذلك فان المتأمل في ظاهرة العروشية يلاحظ أن تواصل وجود العروشية إلي اليوم هو نتاج لخيارات سياسية وليست فقط ظاهرة اجتماعية.
ففي حوار جمعني بأحد رؤساء بلديات تطاوين اعتبر انه على الرغم من الاحتكاك الكبير بين مناطق وقرى ولاية تطاوين أو مدنين مثلا نعتقد أن التعايش و المعاملات التي بين مواطني مختلف العروش لا يمكن لأي سبب المس منها نظرا لتطور العلاقات بينها, لكن يبقي هذا التعايش مرتبط بالوضعية التي عليها المنطقة أي انه مثلا في صورة حدوث نزاع بين عرشين مختلفين يغيب التعايش و تعم الفوضى و في حالات يصل النزاع إلي استعمال العنف مما يخلف جرحي و قتلي.
هذا إلي جانب تمركز بعض العروش في مناطق معينة لتصبح القرى تعرف باسم العرش القاطن بها و الذي من شأنه تعميق الأزمة من خلال تربية الأجيال القادمة على نفس الفكر وهو ما يمكن أن يساهم في تنمية فكرة رفض التعايش مع الاخر و التعامل بأنانية مع بقية العروش حتى علي مستوى المطالبة بالحقوق وهو ما انجر عنه في الوقت الحاضر مطالبة مواطني جهة معينة من البلدية تمتيع عرشهم بالخدمات البلدية كالطرقات مثلا على حساب عرش أخر.
على الرغم من أن هذه الظاهرة لا تؤثر على العمل البلدي في الوقت الحاضر نظرا لوجود مختلف العروش الموجودة في المنطقة تقريبا في أعضاء المجلس البلدي لكن في المقابل لها تأثير كبير على جوانب أخرى أهمها التبليغ على الفساد و مكافحته, فرغم تفشي ظاهرة الفساد في شتي المجالات إلا أن المجتمع اليوم مازال لا يؤمن بأهمية التبليغ على الفساد و فضح الفاسدين بل يلتجئون للتستر بتعلة أن الفاسد ليس فقط من الأصول أو الفروع و إنما يعود لنفس العرش و كأنه لو بلغ عنه لأصبح خائنا و لا يمكن الوثوق به مستقبلا من قبل أبناء عرشه فعلي الرغم من أن اغلب المواطنين على علم بمواطن الفساد إلا أنهم يخيرون الصمت على أن يفضح الفساد و هو ما لحظناه من خلال عدد التبليغات الواردة على مركز يقظ لدعم و إرشاد ضحايا الفساد بولاية تطاوين فحتى من خلال التحاور مع المبلغين أو المواطنين بالجهة لا بد من أن يتم التنصيص في اغلب الأحيان على العرش الذي ينتمي إليه الشخص المبلغ عنه.
لذلك فانه لتجاوز هذه الظاهرة لابد من العمل اولا على عدم استعمال العروشية كآلية لوصول بعض الاطراف للسلطة هذا الي جانب العمل على القضاء على هذه الظاهرة خاصة على مستوى الاطفال و الشباب لضمان مجتمع خال من النعرات القبلية من خلال القيام بومضات تحسيسية توعوية للحد من الأفكار و الأفعال التي من شانها إلحاق الضرر بالمجتمع.