× Bloggers About Us EL Manifesto Accreditation System Terms and conditions Privacy Policy
logo

Iblog is a collective blog and the first inclusive platform in Tunisia.

أنت في حاجة إلى طبيب أيها الطبيب

يقول الطبيب: كنت الطبيب الشاب الوحيد في عائلتي... لا بل في قريتي وكنت فتى مبسام لا تفارق البسمة محياه، يأتيني المرضى من كامل القرية فأحاول أن أصف لكل مريض دواء يفيده، المشكل أن أغلب المرضى كانو في سني ومن جيلي وعللهم كانت من الحياة، يأتيني هذا فيبكي بحرقة على ماله ويأتي هذا فيشتكي هجر حبيبة ، ويأتيني ٱخر يريد علاجا لخوفه الذي يصل به حد الأرق، التفكير المفرط، العصبية الزائدة، كنت أرغب لو أخبر كل هؤلاء بأني لست بالطبيب النفسي ولا أعلم عن هذا الكثير، إني مجرد طبيب عام كان يرغب في مواصلة تخصصه في أمراض القلب، " أنت يا سيدي تضحك دائما وتبدو سعيدا " ويكفيك حصولك على شهادة التخرج وهأنت طبيب إذا عالجنا" قالها لي أحد الشباب وكأن التخرج من كلية الطب أو الدراسة عموما هي ميزة تتيح القيام بأي شيء لفائدة الناس، حسنا لا أنكر أن الطب مهنة إنسانية لكن قلة الوعي التي في هذه القرية الصغيرة الحزينة تدفعني للشفقة على نفسي "لقد أدخلتك كلية الطب حتى تساعد الفقير والمحتاج وتكون عونا لي ولهم في هذه الظروف، نحن القرية الوحيدة التي ليس لها طبيب وذلك لغلاء دراسة هذا التخصص وحكره على النخبة" قالها لي يوما والدي عندما أخبرته أني أريد الإبتعاد قليلا "أنا لست طبيبا نفسيا يا والدي حتى أني لم أكمل تخصصي، إن الأمر يزداد صعوبة علي يوما بعد يوم وأخشى أن أضر الناس بدلا من مساعدتهم".

لم تستوعب عائلتي هذا أمر ولأني كنت شديد التعلق بهم وخصوصا أبي الذي ضحى لأجلي بالكثير لم أرغب في العصيان ووجدتني أستمع لهذا وأنصح هذا واضحك هذا، تماما كمكيف الهواء الذي يستقبل الهواء الحار ويخرجه نقيا وكنت أعتمد في هذا كله على تجربة الدراسة وما عشته مع الناس هناك.

الجميع كان يعاني من علل القلب النفسية التي لم تكن تنفع معها لا الحشائش ولا الخلطات الطبيعية التي كان يعدها شيوخ القرية فيلتجئون الي "إذ لم تعالج الأعشاب أمراضنا العادية فالأمر خطر اذا" قال لي أحد الشبان العاملين في الحضيرة.... "يؤسفني حالك وحال الشباب مثلك إن الأعشاب لم تعد حلا منذ زمن، لا أدري لماذا تهمل الدولة هذه القرية وتفضل أن يكون تعاملها معها عن بعد! وقد أسمع أحيانا في نشرات الأخبار أحد المسؤولين يقول" نحن نفضل أن لا نتعامل مع أهل القرية وهذا شأننا" ولم أر أحدا يعلق أو يثور على هذا الأمر، لقد كنت الوحيد الذي أستشيط غضبا سواء عندما كنت في الكلية أو في القرية ولكنهم كانو يجيبون بإبتسامة حزينة حتى والدي كان يقول" ليس مهم"..."

'ليس مهم" وهذا تماما ما كنت أقوله عندما تنتابني نوبات البكاء المفاجئة في الليل.. نعم أنا الدكتور أحمد سعيد الذي يعالج الجميع غدى يمضي ليله باكيا ومع الوقت بدأت أفقد ضوئي الداخلي...

لم تنفع المهدئات التي كنت أتناولها، ولا الشعائر الدينية ولا القراءة، كلها كانت مسكنات، كنت أدعو الله كثيرا لعله يجد لي حلا، "الطبيب لا يمرض" قالها والدي عندما أخبرته شكوكي وحاجتي لعلاج نفسي، ربما أنت مرهق قليلا، خذ قسطا أكبر من الراحة" حاولت أن أتماسك أعصابي فلم أجد إلا دموعي تنهمر دون شعور فصاح في وجهي قائلا "القوي لا يضعف" وسكب كأس الماء الذي كان يمسكه على وجهي، حملت هشاشة نفسي وعاندتها لأظهر بكل قوتي وذهبت للمريض الذي في انتظاري "أنا حزين يا سيدي لا أعلم سبب حزني ربما فراق عزيز على قلبي أو فراق حلم أردت تحقيقه أو قسوة الظروف والعائلة لا أعلم ولكني أمضي الوقت أبكي، نعم أنا رجل وأبكي يا سيدي٫ سيدي؟ يا دكتور؟" إستفقت من سرحاني وإبتسمت له فقال بتعجب "هل كنت تسمعني؟ أقول لك أني رجل وأبكي"

-وما هو المشكل في أن يبكي الرجل؟ أليس بشرا؟

-القوي لا يضعف يا سيدي كما وأن الطبيب لا يمرض.

-من قال أن الطبيب لا يمرض؟

-إن مرض الطبيب فمن يعالج المرضى؟ هناك أمراض لا يعالجها إلا الطبيب لا تنفع معها عقاقير الشيوخ ولا نصائح المجربين...تخيل أن تمرض وأنت الطبيب الوحيد في القرية!

....."تخيل أن تمرض وأنت الطبيب الوحيد في القرية"....

وبينما كانت كلماته تتردد في أذني أردف قائلا :"أتعلم لماذا سميت بالقرية الحزينة؟

لأن الحزن يتملكنا في الشباب لا أعنيك أنت طبعا يا دكتور فأنت طبيبنا الوحيد الذي نستعين به على هذا الألم، إن الفرد منا ما إن يصل سن العشرينات حتى يتحول إلى شخص غير ذلك الذي كان، مشاغل الحياة وتحمله المسؤولية سواء كان من خلال زواجه حتى يستطيع الإنجاب مبكرا أو إعانة عائلته الفاقدة للسند تضعه تحت ضغط كبير وتفقده في بعض الأحيان مشاعره وأنت إبن القرية وتعلم جيدا الوضع هنا، قليلون هم الذين يستطيعون إكمال تعليمهم ومن حالفه الحظ ونجح فهو لا يعود لهذه القرية، فأنت إذا أردت الخروج عن المألوف و امتلاك حلم لك وحدك مثلا لا تشارك فيه أهل القرية فسيموت حلمك عاجلا أم ٱجلا وكثيرون هنا لديهم أحلام ماتت وتموت، إن الحلم يا دكتور مثل الرضيع الذي يولد معنا فنعتني به ونغذيه وننتظر بفارغ الصبر حتى نراه كبيرا يتحقق ثم نكبر نحن وقد كبر حلمنا ويكون قد حان الوقت لتحقيقه فنجد الواقع عجوزا في الخمسينات مترهلا ضعيفا لا يسع حلمنا الكبير فيبدأ الحلم بالهزال تدريجيا ويمرض إلى أن يموت... وإحساس فقدان الحلم سيء يا سيدي، سيء جدا ومر تماما كإحساس الأم عندما تفقد إبنها، لذلك يعترينا الحزن ونستصيغ الألم إلى أن نتعود"

كنت أفكر في كل كلمة يقولها، أستشعر كل حرف... ما الذي مات داخلي يا ترى؟ ثم إقترب مني بهدوء وقال "أ أخبرك سر؟ "

-تفضل

-أتعلم لماذا لا ترغب الدولة في التدخل في شؤون القرية ولا أحد يرغب في القدوم إليها؟ ثم خفض صوته قائلا : يخافون العدوى...

-العدوى؟؟!

-نعم يا سيدي العدوى إن الحزن معد.. يقولون إن تواجدك بين أناس تحيطهم السلبية قد يؤدي إلى هلاكك وتعطل حياتك، لذلك يخاف المسؤولون القدوم، يخافون أن تتعطل شؤون البلاد ويطغى الجانب النفسي على الجانب العملي.

أهل المدينة لم يتعودو على مجاراة الأمور والتعامل مع المشاعر بطريقة متوازنة إما الكل وإما فلا. بعض البشر قد يتحملون الألم العضوي بطريقة رهيبة ولكنهم يموتون بمجرد كلمة في القلب، وأظن أنك تفهم جيدا قصدي...

إن الحزن يا سيدي كالطاعون..كالوباء...لديه سرعة فائقة على الإنتشار والإنتقال من شخص إلى ٱخر تخيل أن تعيش داخل مجموعة يعتبرون الفرحة إنذار حزن، اليوم الذي لا يبكون فيه لا يمر عليهم بسلام!

لذلك حتى الأطباء يخافون القدوم إلينا، إن حزننا من العيار الثقيل الذي لا يفيد معه أي تلقيح غير أن تولد في القرية وتتأقلم على العيش منذ الصغر، إن الحزن هو مرض العصر يا سيدي وقد يدمر العصر بأكمله خصوصا المستقبل وليس مهما، المهم أن تكون قادرا على العمل والإنتاج حتى لو كان إنتاجا ضعيفا أو سيء وهنا أتحدث طبعا عن الشباب الذي هو فريسة سهلة لكل هذا وهأنا وغيري ممن يأتونك دليل على ذلك.

كنت أصغي الى هذا الشاب وأنا في غاية الدهشة ...كيف لشخص يملك كل هذا الوعي والإدراك أن يظل في مكانه ولا يحاول أن يخرج من زنزانته؟ كيف لشخص يعلم علته ولا يحاول أن يبادر بالتغيير؟ إن من يعلم كل هذا دون أن تكون له صلة كبيرة بالمحيط الخارجي يملك بتأكيد الحلول!

إن الأسوء من الجهل أن تملك نصف الوعي ولا تحاول الحصول على النصف الآخر، أن ترضى بجهلك وأنت تعلم أنك قادر على النهوض بنفسك، الإكتفاء الذاتي لأسباب وهمية نخترعها لنبرر ضعفنا أمام عللنا كي نرضي أنفسنا ونريح ضميرنا لعدم المحاولة....

كان لي صديق طفولة كنت أحبه كثيرا، صديقي كان فلاحا بسيط درسنا معا إلى غاية الثانوية العامة وأجبره والده على اتباع خطاه في الأرض في حين كانت رغبتي ورغبة والدي في أن أتبع سلك الصحة، صديقي كان رجلا حقيقيا لم يتأثر بأجواء القرية ولم تطغى عليه الظروف، منذ عرفته كان يفضل الوحدة، استهلكني وقت طويل حتى استطعت مصادقته، كان دائما يقول لي "الإنعزال عن هؤلاء البشر راحة يا صديقي، البقاء وحيداً أمان صدقني إنه مثل الدرع الواقي، أعلم أنك لا تفهم كلامي الآن لكنك ستفهمه مستقبلا" لم يتزوج إلا في السنين الأخيرة وكان ذلك تحت إلحاح والده طبعا، أنجب بنتا مؤخرا وأخبرني أنه يريدها أن تكون بيطرية، لا أعلم لماذا الطب البيطري تحديدا ولكن لصديقي فلسفته في الحياة.

إستجمعت كل قوتي وذهبت لوالدي أخبره أني راحل، لم أضع إجابات لسؤالاته ولا ردة فعل لغضبه ولا أي شيء إطلاقا "لا بأس في بعض الأنانية عندما يتعلق الأمر بهلاك النفس، الطبيب يمرض يا أبي وإن مرض الطبيب فسيقتل المرضى بدل من أن يحييهم، وإن عاش المريض مع مرضى مثله ودون وعي فسيقومون بقتل بعضهم البعض بدل التعايش، أنا ممتن لكل ما فعلت ولكني بحاجة لطبيب يا والدي، خرجت دون أن ألتفت ورائي أخذت عهدا بأن لا أنظر كل ما أردته هو الإبتعاد، الإبتعاد قدر ما يمكن عن كل هذا، الهروب....

بعد سنوات

-مرحبا أنا ريم وأنا الطبيبة البيطرية الوحيدة في القرية المشكلة أني لا أعالج الحيوانات وإنما أعالج أهل القرية!

النهاية

Press ESC to close