الأخبار الزّائفة زمن الشعبويّة
جدّ مساء الثلاثاء 9 ماي 2023، هجوم مسلّح كيّفه البعض بالإرهابي فيما ذهب اَخرون لإعتباره إجراميّا بجزيرة جربة في تونس. لم تكن هذه الفاجعة سهلة على الشعب التونسي، أولا لتزامنها مع فترة حجّ الغريبة بالجزيرة )مناسبة دينيّة يهوديّة سنويّة ( وثانيا،لتزامنها مع قرب الموسم السياحي والاَمال المعلّقة عليه في جلب عائدات ماليّة لميزانيّة الدولة التونسيّة.
ذكّرتنا هذه الحادثة بسلوك لم يعد بالغريب على ممارسات الشعب التونسي الإلكترونيّة المتمثّلة في هواية نشر الأخبار الزائفة. فتراوحت تدوينات مواقع التواصل الإجتماعي بين حائرين متسائلين حول سرّ ما حدث وما يحدث، وبين "عارفين" لكلّ تفصيل جدّت في جربة بالرّغم من وجوده خلف شاشة مضيئة في بيته يحتسي كوبا من الشاي الدافئ.
في حدّ ذاتهم، إنقسم العارفون لتفاصيل الحادثة في تأويلاتهم وأخبارهم. فذهب بعضهم لرواية مقتل عدد كبير من زوّار معبد الغريبة بجزيرة جربة جرّاء متنكّر في زيّ الحرس الوطني، وذهب اَخرون لرواية تشابك أمني- أمني أسفر عن كلّ تلك الإصابات، في حين ذهب شقّ اَخر لإعتبارها مؤامرة تستهدف النّظام الحاكم وتريد إفشاله بشتى الوسائل.
قرن العديد من المحللين والصحافيين في تأويلهم لإنتشار هذه الأخبار الزائفة، بصمت الجهات الرّسميّة على التفاصيل وغياب تغطية اَنيّة من قبل وسائل الإعلام الرّسميّة. يمكن إعتبار هذا التأويل قريبا من الصحّة، لكنّ الجدير بالذكر، أنّ عددا من وسائل الإعلام الرسميّة والتي تكتسي بعدا إقليميّا على غرار قناة "الجزيرة" في حدّ ذاتها ساهمت في تغذية إنتشار الأخبار الزائفة. فالقناة المذكورة تراوحت عناوينها بين "شاهد: إطلاق نار داخل كنيس يهودي في جزيرة جربة" و "تونس : هجوم قرب معبد يهودي في جربة أسفر عن مقتل زائرين"، وبين الخبر هذا وذاك ساعتان من الزّمن.
بدورها بثّت القناة الوطنيّة الأولى التونسيّة في "تغطية سريعة" للحادثة أثناء نشرة منتصف اللّيل تدخّلا هاتفيّا لشخص روّج له أنه بيريز الطرابلسي رئيس هيئة تنظيم زيارة الغريبة. ما يدهشنا أنّ منصّة ICheck التي تعنى بالتحقّق في الأخبار الزائفة والمضلّلة عند إتّصالها ببيريز الطرابلسي الحقيقي كشف أنه "لم يصرّح بعد لأي وسيلة إعلاميّة، مشدّدا أنه لا يمتلك هاتفا جوّلا من أصله عقب الحادثة إلى حين عودته إلى الفندق في ساعة متأخّرة من اللّيل"
هنا نلاحظ وأنّ حضور وسائل إعلام رسميّة وطنيّة منها وقطريّة لم يساهم ذاته في كشف الحقيقة بل زاد الطين بلّة، وغذّى المأوليين الفاسبوكيين بمعلومات أقل ما يقال عنها غير جديّة. بدورها، ساهمت السلط الرّسميّة في ضبابيّة المشهد فغياب مداخلاتها، سمح بدوره للحابل والنابل بإبداء رأيه ونشر ما لذّ وطاب من الأوهام والقصص الخياليّة. فحتى مجلس الأمن القومي جاء بعد 24 ساعة، والنقطة الإعلاميّة لوزارة الداخليّة كانت بعد يومين.
حادثة جربة ليست فريد من نوعها في الاَونة الأخيرة في تونس، إذ تتعدّد الأمثلة التي تنتصب فيها محاكم فايسبوكيّة، يجزّر فيها عديد المواطنين، السياسيين، الجمعيّات، الأحزاب وغيرها من مكوّنات المجتمع. في مثل ليس ببعيد زمنيّا، روّجت يوم الإربعاء 10 ماي 2023 "يوما بعد أحداث جربة" صورة لإمرأة ترتدي نقابا في منطقة طينة من ولاية صفاقس، وبدأت المحاكمات الشعبيّة : " تونس في خطر إثر هجوم جربة الإرهابي"، "شاهد إرهابي يرتدي نقابا في صفاقس"، "تأكّدت مصادرنا من خلال الإتصال بإقليم الأمن الوطني بصفاقس بكونها إمرأة ومختلّة المدارك العقليّة"، وغيرها من الروايات الهولاميّة التي يتخيّل ناشروها أنفسهم أبطال اللّحظة ومنيري الرأي العام بمواكبتهم الحينيّة لمستجدّات السّاعة لحظة بلحظة. فحتى بعد تأكّد المعلومة بكون مرتدية النّقاب إمرأة وتعمل بمصنع رفتت منه إثر المحاكمة الشّعبيّة الفايسبوكيّة، لم تقف حالات التنمّر على المظهر واللباس التي ظهرت بهم السيّدة.
في نفس الإطار الزمكاني، نذكّر بأن الدولة التونسيّة قد صادقت على المرسوم عدد 54 لسنة 2022 و المؤرخ في 13 سبتمبر 2022 يتعلق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال. هذا المرسوم السياسي الذي أثار حفيظة النّاشطين المدنيين والسياسيين ذاته نصّ في فصله الرّابع والعشرين عل أنّه " يعاقب بالسجن مدة خمسة أعوام وبخطية قدرها خمسون ألف دينار كل من يتعمّد استعمال شبكات وأنظمة معلومات واتّصال لإنتاج، أو ترويج، أو نشر، أو إرسال، أو إعداد أخبار أو بيانات أو إشاعات كاذبة أو وثائق مصطنعة أو مزوّرة أو منسوبة كذبا للغير بهدف الاعتداء على حقوق الغير أو الإضرار بالأمن العام أو الدفاع الوطني أو بث الرعب بين السكان.
ويعاقب بنفس العقوبات المقررة بالفقرة الأولى كل من يتعمد استعمال أنظمة معلومات لنشر، أو إشاعة أخبار ،أو وثائق مصطنعة ،أو مزورة أو بيانات تتضمن معطيات شخصية أو نسبة أمور غير حقيقية بهدف التشهير بالغير أو تشويه سمعته أو الإضرار به ماديا أو معنويا أو التحريض على الاعتداء عليه أو الحث على خطاب الكراهية."
عندما نتمعّن في تفاصيل هذا الفصل أو المرسوم إجمالا نضنّ لوهلة أنّ جميع الواقفين وراء نشر الأخبار الزائفة مهما كان تموقهم السياسي أو المجتمعي، في طائلة هذا الإطار التشريعي. لكن، عند العودة للواقع لا نجد هذا المرسوم إلاّ أداة سياسيّة تسلّط على رقاب المعارضين السّياسيين، النقابيين، الصحفيين، الناشطين المدنيين، وكلّ من لفّ لفّهم ولم يكن في صفّ النّظام الحاكم.
تتعدّد الأمثلة في هذا السّياق ونسمّي ذكرا لا حصرا : شبكة BUSINESS NEWS الإخباريّة على خلفيّة مقال نشرته بعنوان "Najla Bouden, une gentille woman" ،الأمين العام السّابق للحزب السياسي المعارض التيّار الديموقراطي غازي الشّواشي،الصحفيّة منية العرفاوي، العضو السابق بهيئة الانتخابات زكي الرحموني، ، عضو هيئة الانتخابات المقال سامي بن سلامة ، كاتب عام الجامعة العامة للنقل وجيه الزيدي، الناشط حمزة العبيدي، المحامي والمناضل الحقوقي العياشي الهمامي، الطالب بهاء الدّين حمادة، وغيرهم الكثيرين.
هنا نستنتجّ، وأنّ جميع من تمّت إحالتهم على أساس المرسوم 54 للمثول أمام القضاء، ولئن إختلفوا في إنتماءاتهم/ن الفكريّة والسّياسيّة وحتى في طبيعة نشاطهم وصفاتهم إلّا أنّهم مشتركون في صفة واحدة وهي عدم الولاء للسّلطة الحاكمة.
من المفارقات التي عشناها في هذا السّياق، كون المرسوم 54 لم يسلّط البتّة على رقاب المواليين لحاكم البلاد والعباد. بالرّغم من أنّ هؤلاء الاَخرين لم يقصّروا البتّة في نشر المعلومات الزائفة والمضلّلة. كان البعض منها طريفا والبعض الاَخر مخيفا.
على سبيل الذّكر، فيما يخصّ الأخبار الطريفة نشرت الصّفحة الفايسبوكيّة "تونس الجديدة 25" الموالية للرئيس قيس سعيّد خبرا يوهم بقول " أليكسيس تكساس (Alexis Texas) مستشارة الأمم المتحدة لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ان الرئيس التونسي قيس سعيد يمثل أملا للشباب التونسي من أجل مستقبل افضل للبلاد و أضافت ان الايقافات الاخيرة تهدف الي مقاومة الفساد و الجريمة المنظمة و في سياق متصل اوضحت ان المعارضة التونسية ليس لها وزن في الشارع التونسي وان أغلب التونسيين ملتفون حول الرئيس قيس سعيد." وإعتمدوا كمصدر قناة روسيا اليوم للإيهام بصدق ما يزعمون. مع العلم أنّ ألكسيس تيكساس هي ممثّلة إباحيّة وأنّ قناة روسيا اليوم لم تنشر أي شيء ذي علاقة بما يزعمون.
أمّا فيما يخصّ الأخبار الزائفة المخيفة التي من شأنها زعزعة السلم الإجتماعي وسكينة المواطنين نخصّ بالذّكر، ما يتمّ التطرّق إليه أثناء برنامج "بلا قناع" للمدعو محمّد البوزيدي الّذي ينتحل صفة صحفي. ففي برامجه تمّ الترويج لعديد المعلومات والإشاعات التي تمسّ من السّلامة الشخصيّة لعديد مكوّنات المجتمع من مواطنين وأجانب وكذلك تعتدي على سلامة معطياتهم الشّخصيّة.
نذكر هنا، خصوصا برنامجه بتاريخ 11 فيفري 2022 الذي كان ضيفه المحامي صابر بن عمّار وتحدّث فيه على تضخّم أعداد أفارقة جنوب الصّحراء وإتّسم خطابه بطابع تحريضيّ وعنصري على معنى القانون عدد 50 لسنة 2018 مؤرخ في 23 أكتوبر 2018 والمتعلّق بالقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، و مستندا على أرقام لا يعلمها سواه متناقضة مع المعطيات الرّسميّة للمعهد الوطني للإحصاء وكلّ الأرقام المنشورة من الهيئاة والمنظّمات العاملة بمجال الهجرة واللّجوء.
في نفس البرنامج "بلا قناع" عند تغطيته لميسرة شعبيّة قادها الإتّحاد العام التونسي للشّغل بتاريخ 4 مارس 2023 نشرت مقاطع فيديو معنونة كالاَتي " ميليشيات تخريبيّة ومندسّة تتبع حركة النّهضة وجبهة الخلاص في مسيرة الإتحاد العام التونسي للشغل" ليجد بعض النّاشطين صلب المسيرة صورهم منشورة على مواقع التّواصل الإجتماعي وتنسب لهم إنتماءات تضعهم أمام محاكمات شعبويّة فايسبوكيّة معلنة.
نختم بخبر زائف لا يمكن تصنيفه طريفا أم مخيفا، جاء على لسان محمود بن مبروك الناطق الرسمي بإسم مسار25جويلية بتاريخ 05 ماي 2023 كذلك لبرنامج "بلا قناع" نفسه و الذي أكّد من خلاله أن تونس تحصلت على موافقة مبدئية من مجموعة دول البريكس للحصول على قرض بخمسة آلاف مليار دولار ودون املاءات خارجية، وقد لاقى هذا الخبر رواجا كبيرا لدى الصفحات الموالية للنّظام الحاكم. هنا أيضا كشفت منصّة ICheck أنّ الخبر لا يمتلك أي أساس من الصّحة.
نخلص ممّا سبق، وأنّ لحاف السّلطة الحاكمة يحمي من إختراق المرسوم 54 حريّة تعبيرك، حرّية نشرك للأخبار الزائفة والمغالطة. بل تضعك في حريّة لتكتب، تخترع ما تريد وقتما تريد. لا لشيئ فقط لأجل معاضدتك تمشّيات السلطات الحاكمة وأهوائها. هنا نجد أنّ السلطة التي تنتهج نهجا شعبويّا لا تؤاخذ ولا يعنيها صحّة الخبر ومصداقيّته طالما لم يكن معارضا لسياساتها ومنهجها وخصوصا إن كان مواليا لها.
في الأخير نذكّر بمقولة كاتارينا كارفالو، رئيسة التحرير غلوبل ميديا غروب، البرتغال التي تصرّح أنّ " الأخبار الزائفة ليست نوعا من الصحافة. ربما ينبغي علينا التفكير [نحن الذين نمثل وسائل الإعلام التقليدية] في ما فعلناه بالصحافة حتى تصبح الأخبار الزائفة مقبولة ومنتشرة بهذا القدر من السهولة. يجب علينا فحص ضمائرنا لنتساءل إن كنا نقوم باللازم، وإن كان سلوكنا سليم، وإن كنا ملتزمين حقا بالصحافة الأخلاقيّة، حتى نساهم في وضع حد لنفوذ الأخبار الزائفة وانتشارها."
عزيز الشّابي.