لم أتوقع أبدا أن أبكي جلادي ولا حتى أن أرثيه بهذه الكلمات اليتيمة فأنا لم أتعافى إلى حد الآن من اضطراب ما بعد الصدمة .
انتقالي من مسرح الجريمة إلى زنزانة مركز الإيقاف فقبو المحكمة مرورا بالأروقة الضيقة لقصر العدالة ، الذي غادره شبح العدالة مسرعا منذ لحظة دخولي ، إلى حين وقوفي أمام قلم الإدعاء العام أو من يسمونه وكيل الجمهورية وأنا في حالة صدمة يسألني ما أسمي فأبكي ! يسألني هل فعلتها فأبكي و تواترت الاسئلة أقتلته ؟ لما قتلته ؟ أ لم تعلمي أنه أمني ؟ هددتِ بموته لحظات قبل وفاته ألا تعلمين أنها جريمة أنك هددت شخصا بفعل إن وقع يوجب عقاب جنائي؟ و مع كل سؤال يتفوه به ممثل النيابة تنهمر دموعي فأنا لا أتذكر شيئا حقا ، النسق المتسارع للأحداث لم يترك لي المجال للتميّز أو حتى لفهم ما وقع ، أخيرا انتهى وابل الأسئلة وتم اقتيادي إلى "السجن المدني بمنوبة" ها أنا أمر من غرفة العبور اتأمل في الجدران بنظرات فارغة ، أنظر إلى كل شيء ولكن لا أرى شيئا ، أمشي بخطوات ثقيلة ولا أصل ، أشعر و كأن الممر الذي نحن فيه بلا نهاية ، اه اخيرا وصلت إلى "الشمبري" عدد 6 على ما يبدو اني سأعتاد هذا المكان إلى حين ظهور جزء من ذاكرتي الذي غاب بعد صوت الطلق الناري ، طلق ناري ! اي طلق هذا لابد وإني عدت إلى الهذيان مجددا سأفترش الأرض لأخذ قسطا من الراحة فهذا المكان مكتظ بمن هن قبلي و لهن الأولوية في الأسّرة ففي الأخير أنا لست في نُزل بل في سجن .
مرت ليلتي الأولى هنا و يالها من ليلة لم أكن أظنها ستمر أنها الليلة الأولى التي أنام فيها دون أن أحلم لا أدري إن كان من تعبي أو أن حقيبة أحلامي وقعت في غفلة مني عندما فقدت جزءا من ذاكرتي ، أحاول مع نفسي تذكر ما حدث بالفعل قبل جلستي الأولى أمام التحقيق فأنا هنا أواجه بمفردي جناية لا أدري أين و كيف وقعت ذنبي الوحيد أنهم وجدوني بجانب جثة أجهلها لكن لا أحد آمن بروايتي غير رفاقي الذين أتذكر ضجيج أصواتهم و هم يأمرونني بالإبتعاد عنه فقد مات ، من هذا الذي مات كيف مات لا أذكر حقا ! أسند رأسي إلى الحائط في "اللاريّة" و أنظر إلى السماء وأنا أدخن سيجارة تحمل تاريخ إستقلال دولة لم تنعم يوما بممارسة سيادتها و في الجانب الآخر تحمل طابعا أزرق سيُذكرني دوما بأنني نزيّلة في السجن المدني بمنوبة "حبس النساء" و لابد من أنه حبس أفكار وأحلام ايضا فمنذ لحظة وصولي إلى هنا و أنا عاجزة تماما عن التفكير كل ما يشغل ذهني هو محاولاتي البائسة في التذكر ، و هاهو صوت من بعيد يقطع عني هذه المحاولات "قمر ! أخرج زيارة" زيارة ؟ منذ يومي الأول ! من الذي إشتاق لي بهذه السرعة ! الأكيد ليسوا عائلتي فأنا أكاد أجزم أنهم لا علم لهم إلى حد الآن ، لأنه وكل ما ذكرت أمام "رجل أمن" أنني أريد إعلام عائلتي أُصفع و أسمع صوتا رديء يقول "سكر **** تڨتل الراجل وتحب داركم يعرفوك ڨتالة أرواح" واصلت طريقي إلى غرفة الزيارات وتلك الأصوات ترافقني ، دخلت إلى الغرفة لإجراء هذه المقابلة الخاصة ، وجدت بانتظاري شابا طويلا أبيض البشرة ذو ملامح أوروبية يرتدي بدلة رمادية.
استقبلني بابتسامة عريضة فرددت له ابتسامة صفراء و أنا في إنتظار أن يكشف لي عن هويته من هذا الأحمق الذي يبتسم لسجينة قد تقضي بقية عمرها في السجن لجرم لا تتذكره ، أظن أنه فهم ما يجول في خاطري فقدم لي نفسه على أنه محام قد تم تسخيره لنيابتي في الملف.
هنا ضحكت طويلا و كتبت له عنوان صديق قديم لي يشتغل في شركة محاماة و طلبت منه بلطف أن يُعلمه بوضعي فأنا لا أقبل تساخير آسفة من حقي اختيار من سيدافع عني خاصة في ملف كهذا ضحيته أنا الجانية المزعومة و الهالك فيه رجل أمن، شعر السيد ذو الملامح الأوروبية بالإحراج وطلب مني أن أفتح له المجال لتوضيح بعض النقاط قال أنه قد تابع قضيتي بانشغال عبر التلفزيون قبل أن يُكلف بالملف وأنه مؤمن ببرائتي و أصر عليا لأقبل نيابته فلم يكن أمامي سوى قبولها في المقابل أن يبلغ رسالتي لصديقي القديم المحامي ، هكذا عقدت أول صفقة لي داخل أسوار هذا السجن و عدت إلى فراشي وأنا أحمل فراشات في أحشائي لا أعلم مصدرها هل هو صاحب الملامح الأوروبية أو لأنني تذكرت الصديق القديم …